فصل: تفسير الآيات رقم (108- 111)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 69‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏‏}‏

خير السحرة موسى عليه السلام في أن يبتدئ بالإلقاء أو يتأخر بعدهم، وروي أنهم كانوا سبعين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا ثلاثين ألف ساحر، وروي أنهم كانوا خمسة عشر ألف، وروي أنهم كانوا تسعمائة، ثلاثمائة من الفيوم وثلاثمائة من الفرما وثلاثمائة من الإسكندرية وكان مع كل رجل منهم حبل وعصى قد استعمل فيها السحر، وقوله ‏{‏فإذا‏}‏ هي للمفاجأة كما تقول خرجت فإذا زيد، وهي التي تليها الأسماء، وقرأت فرقة «عِصيهم» بكسر العين، وقرأت فرقة «عُصيهم» بضمها، وقرأت فرقة «يُخيل» على بناء الفعل للمفعول فقوله ‏{‏أنها‏}‏ في موضع رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن والثقفي «تُخِيل» بضم التاء المنقوطة وكسر الياء وإسناد الفعل إلى الحبال والعصي، فقوله ‏{‏أنها‏}‏ مفعول من أجله والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسرين أن الحبال والعصي كانت تنتقل بحبل السحر وبدس الأجسام الثقيلة المياعة فيها وكان تحركها يشبه تحرك الذي له إرادة كالحيوان، وهو السعي فإنه لا يوصف بالسعي إلا من يمشي من الحيوان، وذهب قوم إلى أنها ما لم تكن تتحرك لكنهم سحروا أعين الناس وكان الناظر يخيل إليه أنها تتحرك وتنتقل ع وهذا يحتمل والله أعلم أي ذلك كان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوجس‏}‏ عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوءه، وظاهر الأمر كله الصلاح، فهذا العمل من أفعال النفس يسمى الوجيس وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير‏.‏ و‏{‏خفية‏}‏ يصح أن يكون أصلها خوفة قبلت الواو ياء للتناسب، وخوف موسى عليه السلام إنما كان على الناس أن يضلوا لهول ما رأى والأول أصوب أنه أوجس على الجملة وبقي ينتظر الفرج، وقوله ‏{‏أنت الأعلى‏}‏ أي الغالب لمن ناوأك في هذا المقام، وقرأ جمهور القراء «تلقّفْ» بالجزم على جواب الأمر وبشد القاف، وقرأ ابن عامر وحده «تلقف» وهو في موضع الحال ويصح أن يكون من الملقى على اتساع ويصح أن يكون من المقلى وهي العصا وهذه حال، وإن كانت لم تقع بعد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وهذا كثير‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم «تلْقف» بسكون اللام وتخفيف القاف وأنث الفعل وهو مسند الى ما في اليمين من حيث كانت العصا مرادة بذلك، وروى البزي عن ابن كثير أنه كان يشدد التاء من «تلقف» كأنه أراد تتلقف فأدغم، وأنكر أبو علي هذه القراءة ع ويشبه أن قارئها إنما يلتزمها في الوصل حيث يستغنى عن جلب ألف، وقرأ الجمهور «كيدُ ساحر» برفع الكيد، وقرأ حمزة والكسائي «كيد السحر»، وقرأت فرقة «كيدَ» بالنصب «سحر» وهذا على أن «ما» كافة و«كيدَ» منصوب ب ‏{‏صنعوا‏}‏، ورفع «كيدُ» على أن «ما» بمعنى الذي‏.‏

و ‏{‏يفلح‏}‏ معناه يبقى ويظفر ببغيته، وقالت فرقة معناه أن الساحر يقتل حيث ثقف ع وهذا جزاء من عدم الفلاح، وقرأت فرقة «أين أتى» والمعنى بهما متقارب، وروي من قصص هذه الآية أن فرعون، لعنه الله، جلس في علية له طولها ثمانون ذراعاً والناس تحته في بسيط وجاء سبعون ألف ساحر فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاثمائة بعير فهال الأمر‏.‏

ثم إن موسى عليه السلام ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعباناً وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها، وقيل البحر، وفرعون في هذا يضحك ويرى أن الاستواء حاصل، ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ففرت نحو فرعون ففزع عند ذلك وقال يا موسى فمد موسى يده إليها فرجعت عصى كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا الحبال والعصي فآمنوا رضي الله عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

في خلال هذه الآيات تقدير وحذف يدل عليه ظاهر القول فالمقدر من ذلك هنا فألقى موسى عصاه فالتقمت كل ما جاؤوا به او نحو هذا، وروي أن السحرة لما رأوا العصا لا أثر فيها للسحر ثم رأت انقلابها حية وأكلها للحبال والعصي ثم رجوعها إلى حالها وعدم الحبال والعصي أيقنوا بنبوءة موسى وأن الأمر من عند الله تعالى وقدم ‏{‏هارون‏}‏ قبل ‏{‏موسى‏}‏ لتستوي رؤوس آي السور فنقل معنى السحرة وهذا كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أزواجاً من نبات شتى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ تأخر شتى إنما هو لتستوي رؤوس الآي، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع «آمنتم» على الخبر، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ءامنتم» بهمزة بعدها مدة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أأمنتم» بهمزتين، وقوله ‏{‏قبل أن آذن لكم‏}‏ مقاربة منه وبعض إذعان‏.‏ وقوله ‏{‏من خلاف‏}‏ يريد قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، قوله ‏{‏في جذوع النخل‏}‏ اتساع من حيث هو مربوط في الجذع وليست على حد قولك ركبت على الفرس، وقوله ‏{‏أينا‏}‏ يريد نفسه ورب موسى عليه السلام، وقال الطبري يريد نفسه وموسى عليه السلام والأول أذهب مع مخرفة فرعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

قال السحرة لفرعون لما تدعوهم ‏{‏لن نؤثرك‏}‏ أي نفضلك ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله تعالى وآياته ‏{‏البينات‏}‏ وعلى ‏{‏الذي فطرنا‏}‏ هذا على قول جماعة أن الواو في قوله ‏{‏والذي فطرنا‏}‏ عاطفة، وقالت فرقة هي واو القسم، و‏{‏فطرنا‏}‏ معناه خلقنا واخترعنا فافعل يا فرعون ما شئت وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ولك بالعذاب وهؤلاء السحرة اختلف الناس هل نفذ فيهم وعيد فرعون فقالت طائفة صلبهم على الجذوع كما قال فأصبح القوم سحرة وأمسوا شهداء بلطف الله لهم وبرحمته، وقالت فرقة إن فرعون لم يفعل ذلك وقد كان الله تعالى وعد موسى أنه ومن معه الغالبون‏.‏

قال القاضي ابو محمد‏:‏ وهذا كله محتمل وصلب السحرة وقطعهم لا يدفع في أن موسى ومن معه غلب إلا بظاهر العموم والانفصال عن ذلك بين وقوله‏:‏ ‏{‏وما أكرهتنا عليه من السحر‏}‏ قالت فرقة أرادوا ما ضمهم اليه من معارضة موسى وحملهم عليه من ذلك، وقالت فرقة بل كان فرعون قديماً يأخذ ولدان الناس بتعليم السحر ويجبرهم على ذلك فأشار السحرة إلى ذلك‏.‏ وقولهم ‏{‏خير وأبقى‏}‏ رد على قوله ‏{‏أينا أشد عذاباً وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه، وقالت فرقة بل هي من كلام الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وتحذيراً قد ضمنت القصة المذكورة مثاله‏.‏ و«المجرم» الذي اكتسب الخطايا والجرائم، وقوله ‏{‏لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ مختص بالكافر فإنه معذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده ويجدد عذابه، فهو لا يحيى حياة هنية، وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار‏.‏ وفي الحديث الصحيح «أنهم يماتون إماتة» وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة‏.‏ و‏{‏الدرجات العلى‏}‏ هي القرب من الله تعالى و‏{‏تزكى‏}‏ معناه أطاع الله تعالى وأخذ بأزكى الأمور وتأتل التكسب في لفظة ‏{‏تزكى‏}‏ فأنه بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏‏}‏

هذا استئناف إخبار عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هارباً، و«السرى» سير الليل، و‏{‏أن‏}‏ في قوله ‏{‏أن أسر‏}‏ يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ منهم أن امشوا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 10‏]‏ ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب ‏{‏أوحينا‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏بعبادي‏}‏ إضافة تشريف لبني إسرائيل، وكل الخلق عباد الله، ولكن هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏، وروي من قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أشعرهم موسى عليه السلام بليلة الخروج استعاروا من معارفهم من القبط حلياً وثياباً وكل أحد ما اتفق له‏.‏

ويروى أن موسى أذن لهم في ذلك وقال لهم‏:‏ «إن الله سينفلكموها»، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون إذنه عليه السلام وهو الأشبه به وسيأتي في جمع الحلي ما يؤيد ذلك، ويروى أن بني إسرائيل عجنوا زادهم ليلة سراهم ووضعوه ليختمر فأعجلهم موسى عليه السلام في الخروج فطبخوه فطيراً في سنتهم في ذلك العام إلى هلم، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهو ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحي إلى موسى أن يقصد ‏{‏البحر‏}‏ فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم، وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة، واختلف الناس في عدد جند فرعون فقيل كان في خيله سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان، وقيل أكثر من هذا مما اختصرته لقلة صحته، فلما وصل موسى البحر وقارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى موسى ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 63‏]‏، ويروى أن الوحي إليه بذلك كان متقدماً وهو ظاهر الآية، ويروى أنه إنما أوحي إليه في موطن وقوعه واتصل الكلام في هذه الآية على جهة وصف الحال وضم بعض الأمور إلى بعض فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة، طرقاً واسعة بينها حيطان ماء واقف فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا، فجففت تلك الطرق حتى يبست، ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول وجاء جبريل عليه السلام راكباً على فرس أنثى فدخل، فأتبعها فرس فرعون وتتابع الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه، فطلبوا مصداق ذلك، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة له‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا اختصار قصص هذه الآية بحسب ألفاظها وقد مضى أمر غرق فرعون بأوعب من هذا في موضع اقتضاه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبساً‏}‏ مصدر وصف به، وقرأ بعض الناس «يابساً» وأشار إلى ذكره الزجاج، وقرأ حمزة وحده «لا تخف دركاً» وذلك إما على جواب الأمر وإما على نهي مستأنف، وقرأ الجمهور «لا تخاف» وذلك على أن يكون «لا تخاف» حالاً من ‏{‏موسى‏}‏ عليه السلام، ويحتمل أن يكون صفة الطريق بتقدير لا يخاف فيه أي يكون بهذه الصفة ومعنى هذا القول «لا تخاف دركاً» من فرعون وجنوده ‏{‏ولا تخشى‏}‏ غرقاً من البحر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «فاتّبعهم» بتشديد التاء وتبع، واتبع إنما يتعدى إلى مفعول واحد كقوله شويت واشتويت وحفرت واحتفرت وفديت وافتديت فقوله ‏{‏بجنوده‏}‏ إما أن تكون الباء مع ما جرته في موضع الحال كما تقول خرج زيد بسلاحه وإما أن تكون لتعدي الفعل إلى مفعول ثان إذ لا يتعدى دون حرف جر إلا إلى واحد‏.‏ وقرأ الجمهور «فأتْبعهم» بسكون التاء وهذا يتعدى إلى مفعولين، فالباء على هذا إما زائدة والتقدير «فأتبعهم فرعون جنده» وإما أن تكون بالحال ويكون المفعول الثاني مقدراً كأنك قلت رؤساءه أو عزمه ويجوز هذا، والأول أظهر، وقرأت فرقة «فغشيهم»، وقرأت فرقة «فغشاهم الله»، وقوله ‏{‏ما غشيهم‏}‏ إبهام أهول من النص على قدر «ما»، وهذا كقوله ‏{‏إذا يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏وأضل فرعون قومه‏}‏ يعني من أول أمره إلى هذه النهاية، ثم أكد تعالى بقوله ‏{‏وما هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏ مقابلة لقول فرعون ‏{‏وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

ظاهر هذه الآية أن هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول هذه النعم التي عدد الله تعالى عليهم، وبين خروجهم من البحر وبين هذه المقالة مدة وحوادث ولكن يخص الله تعالى بالذكر ما يشاء من ذلك‏.‏ ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى هذا فعلنا بأسلافكم ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ بتقدير قيل لهم كلوا، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم» إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم» بغير ألف في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم»‏.‏ وقوله ‏{‏وواعدناكم‏}‏ قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيم، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره، وقالت فرقة هذا ‏{‏الطور‏}‏ هو الذي كلم فيه موسى اولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر، وقالت فرقة ليس به و‏{‏الطور‏}‏ الجبل الذي لا شعرا فيه وقوله ‏{‏الأيمن‏}‏ إما أن يريد اليمن وإما ان يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره‏.‏ و‏{‏المن والسلوى‏}‏ طعامهم، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من طيبات‏}‏ يريد الحلال الملذ لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن، فقال مالك رحمه الله الحلال، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش والمستقذر من الحيوان‏.‏ و‏{‏تطغوا‏}‏ معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع‏.‏ وقرأ جمهور الناس «فيحِل» بكسر الحاء «ومن يحلِل» بكسر اللام، وقرأ الكسائي وحده «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل، و‏{‏هوى‏}‏ معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر‏:‏

فهوى هوي العقاب *** قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

هويّ الدلْو أسلمه الرشاء *** ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي» في جهنم وفي سخط الله، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم، ولما حذر لله تعالى غضبه والطغيان في نعمه فتح باب الرجاء للتائبين، والتوبة فرض على جميع الناس بقوله تعالى في سورة النور‏:‏

‏{‏وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ والناس فيه على مراتب إما مواقع الذنب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وإما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته عن مواقعته لشيخ أو آفة فتوبته الندم واعتقاد الترك أن لو كانت قدوة، وأما لم يواقع ذنباً فتوبته العزم على ترك كل ذنب والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مقيدة، وإذا تاب المرء ثم عاود الذنب بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت مجبة، ويحتمل أن يعيده لأنها توبة لم يواف بها، واضطرب الناس في قوله ‏{‏ثم اهتدى‏}‏ من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل، فقالت فرقة معناه لم يشك في إيمانه، وقالت فرقة معناه ثم استقام، وقالت فرقة معناه ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه، وقالت فرقة ثم اخذ بسنة نبيه، وقالت فرقة معناه أمر بسنته، وقالت فرقة معناه والى أهل البيت ع وهذه كلها تخصيص واحد منها دون ما هو من نوعه بعيد ليس بالقوي، والذي يقوى في معنى ‏{‏ثم اهتدى‏}‏ أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل، ورب مؤمن عمل صالحاً قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع والخوارج فمعنى ‏{‏ثم اهتدى‏}‏ ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه ع وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 91‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً‏}‏

قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل رأى على جهة الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادراً إلى أمر الله تعالى، وحرصاً على القرب منه وشوقاً إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل وقال لهم موسى تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى عليه السلام وناجى ربه زاده في الأجل عشراً، وحينئذ وقفه على معنى استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الإعلام له بما صنعوا وقرأت فرقة «أولايَ» بياء مفتوحة‏.‏ وقوله ‏{‏على أثري‏}‏ يحتمل أن يكون في موضع رفع خبراً بعد خبر، ويحتمل أن يكون في موضع نصب في موضع الحال، وقرأت فرقة «على أَثَري» بفتح الهمزة والثاء، وقرأت فرقة «إثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وأعمله موسى عليه السلام أنه إنما استعجل طلب الرضى فأعمله الله تعالى أنه قد فتن بني اسرائيل، أي اختبرهم بما صنعه السامري‏.‏ ويحتمل أن يريد ألقيناهم في فتنة، أي في ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف كلمة، و‏{‏من بعدك‏}‏ أي من بعد فراقك لهم، وقرأت فرقة «وأضلَّهم السامري» على إسناد الفعل إلى ‏{‏السامري‏}‏ وقرأت فرقة «وأضلُّهم السامري» بضم اللام على الابتداء والإخبار عن ‏{‏السامري‏}‏ بأنه «أضلُّ» القوم، والقراءة الأولى أكثر وأشد في تذنيب السامري و‏{‏السامري‏}‏ رجل من بني إسرائيل يقال إنه كان ابن خال موسى، وقالت فرقة لم يكن من بني إسرائيل بل كان أصله من العجم من أهل كرمان والأول أصح، وكان قصص السامري أنه كان منافقاً عنده حيل وقبض القبضة من أثر جبريل عليه السلام وعلم ما أقدره الله عليه لفتنة القوم أنه يتهيأ له بتلك القبضة ما يريد مما يجوز على الله تعالى لأنه لو ادعى النبوءة مع ذلك العجل لما صح ولا جاز أن يخور ولا أن تتم الحيلة فيه ولكنه لما ادعى له الربوبية وعلامات كذبه قائمة لائحة صحت الفتنة به وجاز ذلك على الله تعالى كقصة الدجال الذي تخرق له العادات لانه مدعي الربوبية ولو كان مدعي نبوءة لما صح شيء من ذلك‏.‏ فلما رأى السامري مدعا ورأى سفه بني إسرائيل في طلبهم من موسى آلهة حين مروا على قوم يعبدون أصناماً على صفة البقر، وقيل كانت بقراً حقيقة علم أنه سيفتنهم من هذه الطريق، فيروى أنه قال لهم إن الحلي الذي عندكم من مال القبط قبيح بكم حبسه ولكن اجمعوه عندي حيت يحكم الله لكم فيه، وقيل إن هارون عليه السلام أمرهم بجمعه ووضعه في حفرة حتى يجيء موسى ويستأذن فيه ربه، وقيل بل كان المال الذي جمعوه للسامري مما لفظ البحر من أموال الغارقين مع فرعون، فروي مع هذا الاختلاف أن الحلي اجتمع عند العجل وأنه صاغ العجل وألقى القبضة فيه فخار، وروي وهو الأصح الأكثر أنه ألقى الناس الحلي في حفرة أو نحوها وألقى هو عليه القبضة فتجسد العجل وهذا وجه فتنة الله تعالى لهم، وعلى هذا تقول انخرقت السامري عادة وأما على أن يصوغه فلم تتخرق له عادة وإنما فتنوا حينئذ بخواره فقط وذلك الصوت قد تولد في الأجرام بالصنعة فلما أخبره الله تعالى رجع موسى ‏{‏إلى قومه غضبان أسفاً‏}‏ عليهم من حيث له قدرة على تغيير منكرهم ‏{‏أسفاً‏}‏ أي حزيناً من حيث علم أنه موضع عقوبة مأموله فدفعها ولا بد منها، والأسف في كلام العرب متى كان من ذي قدرة على من دونه فهو غضب، ومتى كان من الأقل على الأقوى فهو حزن، وتأمل ذلك فهو مطرد إن شاء الله عز وجل‏.‏

‏{‏قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ‏}‏

وبخ موسى عليه السلام قومه بهذه المقالة و«الوعد الحسن» هو ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى به أهل طاعته، وقوله ‏{‏وعداً‏}‏ إما أن يكون نصباً على المصدر والمفعول الثاني مقدراً، وإما أن يكون بمعنى الموعود ويكون هو المفعول الثاني بعينه، ثم وقفهم على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهي طول ‏{‏العهد‏}‏ حتى يتبين لهم خلف في الموعد أو إرادة غضب الله تعالى‏.‏ وذلك كله لم يكن ولكنهم عملوا عمل من لم يتدين وسمي العذاب «غضباً» من حيث هو عن الغضب، والغضب إن جعل بمعنى الإرادة فهو صفة ذات وإن جعل ظهور النقمة والعقاب فهو صفة فعل فهو من المتردد بين الحالين، وقرأ نافع وعاصم «بمَلكنا» بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي «بمُلكنا» بضمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «بمِلكنا» بكسرة، قال أبو علي هذه لغات ع ظاهر هذا الكلام أنها بمعنى واحد ولكن إن أبا علي وغيره قد فرق بين معانيها فأما ضم الميم فمعناه على قول أبي علي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بقوته وسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري وليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذي الرمة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

لا يشتكي سقط منها وقد رقصت *** بها المفاوز حتى ظهرها حدب

إذ لا تكون منها سقطة فتشتكي، قال وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ أي ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف ع وهذا كله في هذه الأمثلة غير متيقن من قول أبي علي وإنما مشى في ذلك على أثر الزجاج دون تعقب وقد شرحت هذا المعنى في سورة البقرة في تفسير ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وبين أن هذه ليست كهذه الأمثلة لأنهم لم يرفعوا الإخلاف فيها والأمثلة فيها رفع الوجهين، وأما فتح الميم فهو مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وفقنا له بل غلبتنا أنفسنا، وأما كسر الميم فقط كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل والمفعول مقدر أي «بملكنا الصواب»، وهذا كما قد يضاف أحياناً إلى المفعول والفاعل مقدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بسؤال نعجتك‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ ومن دعاء الخير، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم «حُمّلنا» بضم الحاء وشد الميم، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «حَمَلنا» بفتح الحاء والميم‏.‏ و«الأوزار» الأثقال، وتحتمل هذه التسمية أن تكون من حيث هي ثقيلة الأجرام، ويحتمل أن يكون من حيث آمنوا في قذفها وظهر لهم أن ذلك هو الحق فكانت آثاماً لمن حملها‏.‏ وقوله ‏{‏فكذلك ألقى‏}‏ أي فكما قذفنا نحن ‏{‏فكذلك‏}‏ أيضاً ‏{‏ألقى السامري‏}‏ ما كان بيده ع وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه السامري، ثم أخبر الله تعالى عن فعل السامري بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرج لهم عجلاً جسداً‏}‏، ومعنى قوله ‏{‏جسداً‏}‏ أي شخصاً لا روح فيه، وقيل معنى ‏{‏جسداً‏}‏ لا يتغذى‏.‏ و«الخوار» صوت البقر، وقالت فرقة كان هذا العجل يخور ويمشي ع وهكذا تكون الفتنة من قبل الله تعالى قاله ابن عباس، وقالت فرقة إنما خار مرة واحدة‏.‏ ثم لم يعد وقالت فرقة إنما كان خواره بالريح كانت تدخل من دبره وتخرج من فيه فيصوت لذلك‏.‏

‏{‏فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏فقالوا‏}‏ لبني إسرائيل، أي قالوا حين قال كبارهم لصغارهم وهذا إشارة إلى العجل‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فنسي‏}‏ يحتمل أن يكون من كلام بني إسرائيل أي فنسي موسى ربه وإلهه فذهب يطلبه في غير موضعه، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏فنسي‏}‏ إخباراً من الله تعالى عن السامري، أي نسي دينه وطريق الحق ع فالنسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول، وفي الثاني بمعنى الترك، ثم قرن تعالى مواضع خطاهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يرون‏}‏ المعنى أفلم يتبين هؤلاء الذين ضلوا أن هذا العجل إنما هو جماد لا يتكلم ولا يرجع قولاً ولا يضر ولا ينفع، وهذه خلال لا يخفى معها الحدوث والعجز لا أن هذه الخلال لو حصلت له أوجبت كونه إلهاً وقرأت فرقة «أن لا يرجعُ» برفع العين، «وأن» على هذه القراءة المخففة من الثقيلة والتقدير أنه لا يرجع، وقرأت فرقة «أن لا يرجع» «وأن» على هذه القراءة هي الناصبة، وأخبر عز وجل أن ‏{‏هارون‏}‏ قد كان لهم في أول حال العجل ‏{‏يا قوم‏}‏ إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري وإنما ‏{‏ربكم الرحمن‏}‏ الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع ‏{‏فاتبعوني‏}‏ إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه ‏{‏وأطيعوا أمري‏}‏ في ما ذكرته لكم وقرأت فرقة «إنما وإن ربكم الرحمن» بكسر الهمزتين، وقرأت فرقة «إنما» بالكسر «وأن» بالفتح، والقراءة الوسطى ضعيفة فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق ‏{‏لن نبرح‏}‏ عابدين لهذا الإله، ‏{‏عاكفين‏}‏ عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة ملازمته ومنه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

عكف النبيط يلعبون الفنزجا‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 94‏]‏

‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

في سرد القصص اقتضاب يدل عليه ما ذكره تقديره فرجع موسى فوجد الامر كما ذكره الله تعالى له فجعل يؤنب هارون بهذه المقالة، وقرأ الجمهور «تتبعن» بحذف الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وبإثباتها في الوصل ويقف ابن كثير بالياء وأبو عمرو بغير الياء‏.‏ ويحتمل قوله ‏{‏ألا تتبعن‏}‏ أي بني إسرائيل نحو جبل الطور فيجيء اعتذار هارون أي لو فعلت ذلك مشت معي طائفة وأقامت طائفة على عبادة العجل فيتفرق الجمع فخفت لومك على التفرق، ويحتمل قوله ‏{‏ألا تتبعن‏}‏ أي لا تسير بسيري وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد ويجيء اعتذار هارون بمعنى أن الأمر كان متفاقماً فلو تقويت عليه وقع القتال واختلاف الكلمة فكان تفريقاً بين بني إسرائيل وإنما لاينت جهدي‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تتبعن‏}‏ بمعنى ما منعك أن تتبعني، واختلف الناس في وجه دخول «لا» فقالت فرقة هي زائدة، وذهب حذاق النحاة إلى أنها مؤكدة وأن في الكلام فعلاً مقدراً كأنه قال ما منعك ذلك أو حضك أو نحو هذا على «أن لا تتبعن» وما قبل وما بعد يدل على هذا ويقتضيه‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «يبنؤم» يحتمل ان يريد يا بن أما فحذف الألف تخفيفاً ويحتمل أن يجعل الاسمين اسماً واحداً وبناه كخمسة عشر، وقرأ ابن كثير عن عاصم وحمزة والكسائي «يا بن أمِ» بالكسر على حذف الياء تخفيفاً وهو شاذ لأنها ليست كالياء في قولك يا غلامي وإنما هي كالياء في قولك يا غلام غلامي وهذه ياء لا تحذف، ويحتمل أن يجعل الاسمين اسماً واحداً ثم أضاف إلى نفسه فحذف الياء كما تحذف من الأسماء المفردة إذا أضيفت نحو يا غلام، وقالت فرقة لم يكن هارون أخا موسى إلا من أمه ع وهذا ضعيف، وقالت فرقة كان شقيقه وإنما دعاه بالأم لأن التداعي بالأم أشفق وأشد استرحاماً، وأخذ موسى عليه السلام بلحية هارون غضباً وكان حديد الخلق عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

المعنى قال موسى مخاطباً للسامري ‏{‏فما خطبك يا سامري‏}‏، وقوله ‏{‏ما خطبك‏}‏ كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهازاً لأن الخطب مستعمل في المكارة فكأنه قال ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك، و«السامري» قيل هو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، وقيل هو منسوب إلى قرية يقال لها سامرة ع وهي معروفة اليوم ببلاد مصر، وقيل اسمه موسى بن ظفر‏.‏ وقرأت فرقة «بصُرت» بضم الصاد على معنى صارت بصيرتي بصورة ما فهو كطرفت وشرفت، وقرأت فرقة «بصِرت» بكسر الصاد، فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل أن يراد من البصر وذلك أن في أمر السامري ما زاده على الناس بالبصر وهو وجه جبريل عليه السلام وفرسه وبالبصيرة وهو ما علمه من أن القبضة اذا نبذها مع الحلي جاءه من ذلك ما يريد، وقرأ الجمهور «يبصروا» بالياء يريد بني إسرائيل، وقرأ حمزة والكسائي «تبصروا» بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل، وقرأ الجمهور «فقبضت قبضة» بالضاد منقوطة بمعنى أخذت بكفي مع الأصابع، وقرأ ابن مسعود وابن الزبير وأبي بن كعب وغيرهم، «فقبصت قبصة» بالصاد غير منقوطة بمعنى أخذت بأصابعي فقط، وقرأ الحسن بخلاف عنه «قُبضة» بضم القاف‏.‏ و‏{‏الرسول‏}‏ جبريل عليه السلام، و«الأثر» هو تراب تحت حافر فرسه، وسبب معرفة السامري بجبريل وميزه له فيما روي أن السامري ولدته أمه عام الذبح فطرحته في مغارة فكان جبريل عليه السلام يغذوه ويحميه حتى كبر وشب فميزه بذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏ وقوله ‏{‏فنبذتها‏}‏ أي على الحلي فكان منها ما تراه وهذا محذوف من اللفظ تقتضيه الحال والمخاطبة‏.‏ ثم قال ‏{‏وكذلك سولت لي نفسي‏}‏ أي وكما حدث ووقع قويت لي نفسي وجعلته لي سولاً وإرباً حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا، وعلمه مع ذلك وجعل له أن يقول مدة حياته ‏{‏لا مساس‏}‏ أي لا مماسة ولا إذاية‏.‏ وقرأ الجمهور «لا مِسَاسَ» بكسر الميم وفتح السين على النصب بالتبرئة وهو اسم يتصرف ومنه قول النابغة‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فأصبح من ذاك كالسامري، *** إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

حتى يقول الأزد لا مساسا *** واستعماله على هذا كثير‏.‏ وقرأ أبو حيوة «لا مَساسِ» بفتح الميم وكسر السين وهو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه والشبه صحيح من حيث هي معدولات وفارقة في أن هذه عدلت عن الأمر، ومساس وفجارعدلت عن المصدر ومن هذا قول الشاعر‏:‏

تميم كرهط السامري *** وقوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألا لا يريد السامري مساس *** وقرأ الجمهور «تخلَفه» بفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لن تخلِفه» بكسر اللام على معنى لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «لن نخلفه» بالنون، قال أبو الفتح المعنى لن نصادفه مخلفاً ع وكلها بمعنى الوعيد والتهديد‏.‏ ثم وبخه عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏وانظر إلى إلهك الذي‏}‏ أي انظر صنيعك وتغيرنا له وردنا الأمر فيه إلى الواجب‏.‏ وقرأت فرقة «ظَلت» بفتح الظاء على حذف اللام الواحدة، وقرأت فرقة «ظِلت» بكسر الظاء على نقل حركة اللام إلى الظاء ثم حذفها بعد ذلك نحو قول الشاعر‏:‏ ‏[‏أبو زبيد الطائي‏]‏ ‏[‏الوافر‏]‏

خَيلا ان العِتاقَ من المطايا *** أَحَسْنَ به فهن إليه شُوسُ

أراد احْسَسْنَ فنقلت حركة السين إلى الحاء ثم حذفت تخفيفاً، وفي بعض الروايات حسين، وقرأت فرقة «ظللت»، وظل معناه أقام يفعل الشيء نهاراً، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلاً ونهاراً بمثابة طفق‏.‏ و‏{‏عاكفاً‏}‏ معناه ملازماً حدباً‏.‏ وقرأت فرقة «لنحرِقنه» بتخفيف الراء بمعنى النار، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس «لنحرُقنَّه» بضم الراء وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد، وقرأ نافع وغيره «لنُحرِّقنه» بضم النون وكسر الراء وشدها وهذا تضعيف مبالغة لا تعدية وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل بالمبرد، وفي مصحف أبي وعبدالله بن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه»، وهذه القراءة مع رواية من روى أن العجل صار لحماً ودماً، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جماداً من ذهب فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن تكون إذابة ويكون النسف مستعاراً لتفريقه في اليم مذاباً‏.‏ وقرات فرقة «لننسِفنه» بكسر السين، وقرأت فرقة «لننسُفنه» بضم السين‏.‏ و«النسف» تفريق الريح الغبار وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف‏.‏‏.‏ و‏{‏اليم‏}‏ غمر الماء من بحر وغيره وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم، و‏{‏نسفاً‏}‏ تأكيد بالمصدر‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لنحرقنه‏}‏ لام القسم، وفي هذه الآية من القصص أن موسى عليه السلام برد العجل حتى رجع كالغبار ثم ذراه في البحر ثم أمر بني إسرائيل أن يشرب جميعهم من الماء فكلما شرب من كان في قلبه حب العجل خرج على شاربه من الذهب فضيحة له، وقال مكي رحمه الله وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل وان الله تعالى أعلم موسى بذلك فكلمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمع لفظ بني إسرائيل حول العجل فحينذ أعلمهم موسى ع وهذه رواية، الجمهور على خلافها وإنما تعجل موسى عليه السلام وحده فوقع أمر العجل ثم جاءه موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة فكان لموسى عليه السلام نهضتان والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 102‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة من موسى عليه السلام لجميع بني إسرائيل مبيناً لهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع كل شيء علماً‏}‏ بمعنى وسع علمه كل شيء‏.‏ و‏{‏علماً‏}‏ تمييز، وهذا كقوله تفقأت شحماً وتصببت عرقاً، والمصدر في الأصل فاعل ولكن يسند الفعل إلى غيره وينصب هو على التمييز، وقرأ مجاهد وقتادة «وسَّع كل شيء» بفتح السين وشدها بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نقص‏}‏ مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل هذا في خبر العجل ‏{‏كذلك نقص عليك‏}‏ فكأنه قال هكذا نقص عليك فكأنها تعديد نعمته، وقوله ‏{‏ما قد سبق‏}‏ يريد به ما قد سبق مدة محمد صلى الله عليه وسلم، و«الذكر» القرآن، وقرأت فرقة «يحمَّل» بفتح الميم وشدها‏.‏ وقوله ‏{‏من أعرض عنه‏}‏ يريد بالكفر به والتكذيب له، و«الوزر» الثقل وهو هاهنا ثقل العذاب بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيه‏}‏ و‏{‏حملاً‏}‏ تمييز، و‏{‏يوم‏}‏ ظرف، و‏{‏يوم‏}‏ الثاني بدل منه وقرأ الجمهور «يُنفخ» بضم الياء وبناء الفعل للمفعول، وقرأت فرقة «يَنفخ» بفتح الياء وبناء الفعل للفاعل، أي ينفخ الملك‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده «ننفخ» بالنون أي بأمرنا وهذه القراءة تناسب قوله ‏{‏ونحشر‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور «في الصور» بسكون الواو، ومذهب الجمهور أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وبهذا جاءت الأحاديث، وقالت فرقة «الصوَر» جمع صورة كثمرة وثمر‏.‏ وقرأ ابن عياض «ينفخ في الصوَر» بفتح الواو وهذه صريحة في بعث الأجساد من القبور، وقرأت فرقة هي الجمهور، «ونحشر» بالنون، وقرأت فرقة «ويحشر» بالياء، وقرأت فرقة «ويُحشر» بضم الياء «المجرمون» على المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي قراءة مخالفة لخط المصحف وقوله‏:‏ ‏{‏زرقاً‏}‏ اختلف الناس في معناه، فقالت فرقة يحشرهم أول قيامهم سود الألوان زرق العيون تشويه ما ثم يعمون بعد ذلك وهي مواطن، وقالت فرقة إنهم يحشرون عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض فكأنهم بيض سواد عيونهم من شدة العطش، وقالت فرقة أراد زرق الألوان وهي غاية في التشويه لأنهم يجيئون كلون الرماد، ومهيع كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق ومنه زرقة الماء قال الشاعر‏:‏ ‏[‏زهير بن أبي سلمى‏]‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فلما وردن الماء زرقاً جمامه *** وضعن عصي الحاضر المتخيم

ومنه قولهم سنان أزرق لأنه نحو ذلك اللون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏

‏{‏يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

أي «يتخافت» المجرمون ‏{‏بينهم‏}‏ أي يتسارون، المعنى أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوها، واختلف الناس فيماذا، فقالت فرقة في دار الدنيا ومدة العمر، وقالت فرقة في الأرض مدة البرزخ، وقالت فرقة ما بين النفختين في الصور، و‏{‏أمثلهم طريقة‏}‏ معناه أثبتهم يقيناً وأعلمهم بالحقيقة بالإضافة إليهم فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك‏}‏ قيل إن رجلاً من ثقيف سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يكون أمرها يوم القيامة، وقيل بل سأله عن ذلك جماعة من المؤمنين، وقد تقدم معنى «النسف»‏.‏ وروي ان الله تعالى يرسل على الجبال ريحاً فتدكدكها حتى تكون ‏{‏كالعهن المنفوش‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 5‏]‏ ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيذرها‏}‏ يحتمل أن يريد مواضعها، ويحتمل أن يريد ذلك التراب الذي نسفه، لأنه إنما يقع على الأرض باعتدال حتى تكون الأرض كلها مستوية، و«القاع» المستوي من الأرض المعتدل الذي لا نشز فيه ومنه قول ضرار بن الخطاب‏:‏ لتكونن بالطباخ قريش، بقعة القاع في أكف الماء‏.‏ و«الصفصف» نحوه في المعنى، و«العوج» ما يعتري اعتدال الأرض من الأخذ يمنة ويسرة بحسب النشز من جبل وطرق وكدية ونحوه، و«الأمت» ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض، يقال مد حبله حتى ما ترك فيه أمتاً فكأن «الأمت» في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، و«العوج» في الآية مختص بالعرض وفي هذا نظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 111‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

المعنى يوم ننسف الجبال يتبع الخلق داعي الله إلى المحشر وهذا نحو قوله تعالى ‏{‏مهطعين إلى الداع‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 8‏]‏ وقوله تعالى ‏{‏لا عوج له‏}‏ يحتمل أن يريد الإخبار به أي لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه والمشي نحو صوته‏.‏ و«الخشوع التطامن والتواضع وهي الأصوات استعارة بمعنى الخفاءِ والاستسرار ومعنى ‏{‏للرحمن‏}‏ أي لهيبته وهول مطلع قدرته، و» الهمس «الصوت الخفي الخافت وقد يحتمل أن يريد» بالهمس «المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏إلا من‏}‏ يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً وتكون ‏{‏من‏}‏ في موضع نصب يراد بها المشفوع له فكأن المعنى ‏{‏إلا من أذن له الرحمن‏}‏ في أن يشفع له، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً على تقدير» لكن من أذن له الرحمن يشفع «، ف ‏{‏من‏}‏ في موضع نصب بالاستثناء ويصح أن يكون في موضع رفع كما يجوز الوجهان في قولك ما في الدار أحد إلا حماراً وإلا حمار والنصب أوجه ‏{‏من‏}‏ على هذه التأويلات للشافع ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ قالت فرقة يريد الملائكة، وقالت فرقة يريد خلقه أجمع، وقد تقدم القول في ترتيب» ما بين اليد وما خلف «في غير موضع على أن جماعة من المفسرين قالوا في هذه الآية ‏{‏ما خلفهم‏}‏ الدنيا و‏{‏ما بين أيديهم‏}‏ أمر الآخرة والثواب والعقاب، وهذا بأن نفرضها حالة وقوف حتى نجعلها كالأجرام وأما إن قدرناها في نسق الزمان فالأمر على العكس بحكم ما بيناه قبل‏.‏ ‏{‏وعنت‏}‏ معناه ذلت، والعاني الأسير ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النساء‏:‏» هن عوان عندكم «وهذه حالة الناس يوم القيامة‏.‏ وقال طلق بن حبيب‏:‏ أراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإن كان روي هذا أن الناس يوم القيامة سجوداً وجعل هذه الآية إخباراً فهو مستقيم وإن كان أراد سجود الدنيا فإنه أفسد نسق الآية، و‏{‏القيوم‏}‏ بناء مبالغة من قيامه عز وجل على كل شيء بما يجب فيه، و‏{‏خاب‏}‏ معناه لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك على الإطلاق، وخيبة المعاصي مقيدة بوقت وحد في العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات‏}‏ عادل لقوله ‏{‏من حمل ظلماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 111‏]‏، وفي قوله ‏{‏من الصالحات‏}‏ تيسير في الشرع لأنها ‏{‏من‏}‏ التي للتبعيض، و«الظلم» أعم من «الهضم» وهما يتقاربان في المعنى ويتداخلان، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى، فقالوا «الظلم» أن تعظم عليه سيئاته وتكثر أكثر مما يجب، و«الهضم» أن ينقض حسناته ويبخسها، وكلهم قرأ ‏{‏فلا يخاف ظلماً‏}‏ على الخبر، غير ابن كثير فإنه قرأ «فلا يخف» على النهي، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه‏}‏ أي كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرنا و‏{‏أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ وتوعدنا فيه بأنواع من الوعيد ‏{‏لعلهم‏}‏ بحسب توقع البشر وترجيهم ‏{‏يتقون‏}‏ الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم وما حذرهم من أليم عقابه، هذا تأويل فرقة في قوله ‏{‏أو يحدث لهم ذكراً‏}‏ وقالت فرقة معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين، وقرأ الحسن البصري «أو يحدثْ» ساكنة الثاء، وقرأ مجاهد «أو نحدثْ» بالنون وسكون الثاء ولا وجه للجزم الا على أن يسكن حرف الإعراب استثقالاً لحركته، وهذا نحو قول جرير ولا يعرفكم العرب‏.‏ وقوله ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏ ختم للقول لأنه لما قدم صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم ختم ذلك بهذه الكلمة وجعل بعد ذلك الأمر بنوع آخر من القول وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعجل بالقرآن‏}‏ قالت فرقة سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف وقت تكلم جبريل له أن ينسى أول القرآن فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عيله السلام الوحي فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏ وقالت فرقة سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه القرآن أمر بكتبه للحين فأمره الله تعالى في هذه الآية أن يتأنى حتى يفسر له المعاني وتقرر عنده، وقالت فرقة سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى لله عليه وسلم أن زوجها لطمها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكما القصاص ثم نزلت ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏، ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن حتى يبين والله أعلم‏.‏ وقرأ الجمهور «من قبل ان يقضي إليك وحيه» وقرأ عبدالله بن مسعود «من قبل أن نقضي إليك وحيه»‏.‏ وباقي الآية بين رغبة في خير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏‏}‏

قال الطبري المعنى وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس فقدماً فعل ذلك أبوهم آدم ع وهذا التأويل ضعيف، وذلك أن يكون ‏{‏آدم‏}‏ مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، و‏{‏آدم‏}‏ إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم وأما الظاهر في هذه الآية، إما ان يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه ‏{‏فنسي‏}‏ فعوقب لتكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ و«العهد» هنا في معنى الوصية‏.‏ و«نسي» معناه ترك، والنسيان الذهول لكن هنا أنه لا يتعلق بالناسي عقاب، وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون الياء ووجهها طلب الخفة، و«العزم» المضي على المعتقد في أي شيء كان، وآدم عليه السلام كان معتقداً لأن لا يأكل من الشجرة لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده، وعبر بعض المفسرين عن العزم هنا بالصبر وبالحفظ وبغير ذلك مما هو أعم من حقيقة العزم والشيء الذي عهد إلى آدم هو أن يقرب الشجرة وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له، وقال أبو أمامة لو أن أحلام بني آدم وضعت منذ خلق الله إلى يوم القيامة ووضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله له ‏{‏ولم نجد له عزماً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا للملائكة‏}‏ ابتداء قصة، والعامل، في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر وقد تقدم استيعاب هذه القصة لكن نذكر من ذلك ما تقتضيه ألفاظ هذه الآية، فالملائكة قيل كان جميعهم مأمور بذلك وقيل بل فرقة فاضلة منهم عددهم اثنان وعشرون، و«السجود» الذي أمروا به سجود كرامة لآدم وعبادة لله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس‏}‏ الاستثناء متصل في قول من جعل إبليس من الملائكة، ومنقطع في قول من قال هو من قبيلة غير الملائكة يقال لها الجن‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يخرجنكما‏}‏ أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما ‏{‏من الجنة‏}‏ ثم خصص بقوله ‏{‏فتشقى‏}‏ من حيث كان المخاطب أولاً والمقصود في الكلام، وقيل بل ذلك لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال وروي أن آدم لما أهبط هبط معه ثور أحمر فكأن يحرك ويمسح العرق فهذا هو الشقاء الذي خوف منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 121‏]‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏إن لك‏}‏ يا آدم نعمة تامة وعطية مستمرة أن لا يصيبك جوع ولا عري ولا ظمأ ولا بروز للشمس يؤذيك وهو الضحاء، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «وإنك لا تظمأ» بكسر الألف، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «وأنك» بفتح الألف، وجعل الله تعالى الجوع في هذه الآية مع العري والظمأ مع الضحاء وكأن عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ المتناسب والعري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العري يمس بسببه البرد والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن تفرق النسب ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الزقَّ الروي ولم أقل *** لخيلي كري كرة بعد إقفال

وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس حافظة لنسب وان ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب، ومن الضحاء قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت *** فيضحي وأما بالعشيِّ فيخصر

و «وسوسة الشيطان» قيل كانت دون مشافهة، إلقاء في النفس، وقيل بل كان بالمشافهة والمخاطبة وهو ظاهر القصة من غير ما موضع وكان دخوله إلى الجنة فيما روي في فم الحية، وكان آدم عليه السلام قد قال الله تعالى له لا تأكل من هذه الشجرة وعين له شجرة قد تقدم الخلاف في جنسها فلما وصفها له إبليس بأنها ‏{‏شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏ أي من أكلها ملكاً مخلداً عمد آدم إلى غير تلك التي نهي عنها من جنسها فأكلها بتأويل أن النهي كان في تلك المعينة، وقيل بل تأول أن النهي إنما كان على الندب لا على التحريم البت، وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي فلما رآها آدم قد أكلت أكل فطارت عنهما ثيابتها وظهر تبري الأشياء منهما وبدت سوءاتهما، ‏{‏وطفقا‏}‏ معناه وجعلا يفعلان ذلك دائماً، و‏{‏يخصفان‏}‏ معناه يلفقان ويضمان شيئاً إلى شيء فكانا يستتران بالورق وروي أنه كان ورق التين، ثم نص تبارك وتعالى على آدم أنه ‏{‏عصى‏}‏ و«غوى» معناه ضل من الغي الذي هو ضد الرشد ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقرأت فرقة «وأنك» بفتح الألف عطفاً على قوله ‏{‏أن لا تجوع‏}‏ وقرأت فرقة و«إنك» عطفاً على قوله ‏{‏إن لك‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 126‏]‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏اجتباه‏}‏ معناه تخيره واصطفاه، و«تاب عليه» معناه رجع به من حال المعصية إلى حال الندم وهداه لصلاح الأقوال والأعمال وأمضى عقوبته عز وجل في إهباطه من الجنة‏.‏ وقوله ‏{‏اهبطا‏}‏ مخاطبة لآدم وحواء، ثم أخبرهما بقوله ‏{‏جميعاً‏}‏ أن إبليس والحية يهبطان معهما وأخبرهما بأن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة‏.‏ و‏{‏عدو‏}‏ يوصف به الواحد والاثنان والجميع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما يأتيكم مني هدى‏}‏ شرط وجوابه في قوله ‏{‏فمن اتبع‏}‏ وما بعده إلى آخر القسم الثاني‏.‏ و«الهدى» معناه دعوة شرعي ثم أعلمهم أنه من اتبع هداه وآمن به فإنه «لا يضل» في الدنيا ‏{‏ولا يشقى‏}‏ في الآخرة، وأن ‏{‏من أعرض‏}‏ عن ذكر الله وكفر به ‏{‏فإن له معيشة ضنكاً‏}‏ والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل، وصف به الواحد والجمع ذلك من وعيد لهم ثم أخبر عن حالة أُخرى هي أيضاً في يوم القيامة وهي حشرهم عمياً، ثم يجيء قوله ‏{‏ولعذاب الآخرة أشد وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏ معنى هذا الذي ذكرناه من المعيشة والعمى ونحوه هو عذابه في الآخرة وهو ‏{‏أشد وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 127‏]‏ من كل ما يقع عليه الظن والتخيل، فكأنه ذكر نوعاً من عذاب الآخرة ثم أخبر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى‏.‏ وقرأت فرقة «ونحشره» بالنون، وقرأت فرقة «ويحشره» بالياء وقرأت فرقة «ويحشرْه» بسكون الراء، وقرأت فرقة «أعمى» بالإمالة، وقالت فرقة العمى هنا هو عمى البصيرة عن الحجة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولو كان هذا لم يخش الكافر لأنه كان أعمى البصيرة ويحشر كذلك، وقالت فرقة العمى عمى البصر ع وهذا هو الأوجه مع أن عمى البصيرة حاصل في الوجهين، وأما قوله ‏{‏ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 102‏]‏ فمن رآه في العينين فلا بد أن يتأول فيها مع هذه إما أنها في طائفتين أو في موطنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك أتتك‏}‏ ذلك إشارة إلى العمى الذي حل به، أي مثل هذا في الدنيا أن ‏{‏أتتك آياتنا فنسيتها‏}‏ والنسيان في هذه الآية بمعنى الترك ولا مدخل للذهول في هذا الموضوع، و‏{‏تنسى‏}‏ بمعنى تترك في العذاب وروي أن هذه الآيات نزلت في المرشي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 130‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏‏}‏

المعنى وكما وصفنا من أليم الأفعال ‏{‏نجزي‏}‏ المسرفين الكفار بالله عز وجل، وقوله ‏{‏ولعذاب الآخرة‏}‏ إن كانت معيشة الضنك في الدنيا أو البرزخ فجاء هذا وعيداً في الآخرة بعد وعيد، وإن كانت المعيشة في الآخرة فأكد الوعيد بعينه هذا القول، الذي جعل به عذاب الآخرة فوق كل عذاب يتخيله الإنسان أو يقع في الدنيا، ثم ابتدأ يوبخهم ويذكرهم العبر بقوله ‏{‏أفلم يهدِ، لهم‏}‏ وقرأت فرقة «يهد» بالياء بمعنى يتبين، واختلفت هذه الفرقة في الفاعل فقال بعضها الفاعل ‏{‏كم‏}‏ وهذا قول كوفي‏.‏ ونحاة البصرة لا يجيزونه لأن «كم» لها صدر الكلام، وفي قراءة ابن مسعود «أفلم يهد لهم من أهلكنا» فكأن هذه القراءة تناسب ذلك التأويل في ‏{‏كم‏}‏ وقال بعضهم الفاعل الله عز وجل، والمعنى ‏{‏أفلم يهد لهم‏}‏ ما جعل الله لهم من الآيات والعبر فأضاف الفعل إلى الله عز وجل بهذا الوجه قاله الزجاج، وقال بعضهم الفاعل مقدر الهدى أو الأمرع أو النظر او الاعتبار هذا أحسن ما يقدر به عندي، وقرأت فرقة «نهد» بالنون وهذه القراءة تناسب تأويل من قال في التي قبلها الفاعل الله تعالى‏.‏ و‏{‏كم‏}‏ على هذه الأقوال نصب ب ‏{‏أهلكنا‏}‏، ثم قيد ‏{‏القرون‏}‏ بأنهم يمشي هؤلاء الكفرة ‏{‏في مساكنهم‏}‏ فإنما أراد عاداً أو ثمود أو الطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، وقرأت فرقة «يمشون» بفتح الياء، وقرأت فرقة «يُمشّون» بضم الياء وفتح الميم وشد الشين، و‏{‏النهى‏}‏ جمع نهية وهو ما ينهى الإنسان عن فعل القبيح، ثم أعلم عز وجل قبله أن العذاب كان يصير لهم ‏{‏لزاماً‏}‏ ‏{‏لولا كلمة سبقت‏}‏ من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى ‏{‏أجل مسمى‏}‏ عنده فتقدير الكلام ‏{‏ولولا كلمة سبقت‏}‏ في التأخير ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ لكان العذاب ‏{‏لزاماً‏}‏ كما تقول لكان حتماً أو واجباً واقعاً لكنه قدم وأخر لتشتبه رؤوس الآي‏.‏ واختلف الناس في الأجل فيحتمل أن يريد يوم القيامة والعذاب المتوعد به على هذا هو عذاب جهنم، ويحتمل أن يريد ب «الأجل» موت كل واحد منهم فالعذاب على هذا هو ما يلقى في قبره وما بعده، ويحتمل أن يريد بالآجال يوم بدر فالعذاب على هذا هو قتلهم بالسيف وبكل احتمال مما ذكرناه، قالت فرقة، وفي صحيح البخاري، أن يوم بدر وهو اللزام وهو البشطة الكبرى، ثم أمره تعالى بالصبر على أقوالهم إنه ساحر وإنه كاهن وإنه كذاب إلى غير ذلك، والمعنى لا تحفل بهم فإنهم مدركة الهلكة وكون اللزام يوم بدر أبلغ في آيات نبينا عليه السلام وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك‏}‏ قال أكثر المتأولين هذه إشارة إلى الصلوات الخمس ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ صلاة الصبح ‏{‏وقبل غروبها‏}‏ صلاة العصر و‏{‏من آناء الليل‏}‏ العتمة ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ المغرب والظهر‏.‏

وقالت فرقة ‏{‏آناء الليل‏}‏ المغرب والعشاء، ‏{‏وأطراف النهار‏}‏ الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح إلى ركعتي الضحى وقبل غروب الشمس فقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سبح قبل غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» ع وسمى الطرفين أطرافاً على أحد وجهين إما على نحو فقد صغت قلوبكما‏:‏ وإما على أن يجعل النهار للجنس، فلكل يوم طرف وهي التي جمع، وأما من قال ‏{‏أطراف النهار‏}‏ لصلاة الظهر وحدها فلا بد له من أن يتمسك بأن يكون النهار للجنس كما قلنا أو نقول إن النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال ولكل قسم طرفان فعند الزوال طرفان الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر فقال عن الطرفين أطرافاً على نحو فقد صغت قلوبكما، وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل والآناء جمع أنى وهي الساعة من الليل ومنه قول الهذلي‏:‏

حلو ومر كعطف القدح مر به *** في كل أنى حداة الليل تنتقل

وقالت فرقة في الآية إشارة إلى نوافل، فمنها ‏{‏آناء الليل‏}‏ ومنها ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏ وركعتا الفجر والمغرب ‏{‏أطراف النهار‏}‏، وقرأ الجمهور «لعلك تَرضى» بفتح التاء أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم «لعلك تُرضى» أي لعلك تُعطى ما يرضيك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 133‏]‏

‏{‏وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏‏}‏

قال بعض الناس سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل به ضيف فلم يكن عنده شيء فبعث إلى يهودي ليسلفه شعيراً فأبى اليهودي إلا برهن فبلغ الرسول بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض» فرهنه درعه فنزلت الآية في ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا معترض أن يكون سبباً لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّه مات ودرعه مرهونة بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها وذلك أن الله تعالى وبخهم على ترك الأعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم والصبر على أقوالهم والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذاك منحصر عندهم صائر بهم إلى خزي، وقوله ‏{‏ولا تمدن عينيك‏}‏ أبلغ من ولا تنظر، لأن الذي يمد بصره إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه‏.‏ و«الأزواج» الأنواع فكأنه قال ‏{‏إلى ما متعنا به‏}‏ أقواماً منهم وأصنافاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زهرة الحياة الدنيا‏}‏ شبه نعم هؤلاء الكفار بالزهر وهو ما اصفر من النور، وقيل «الزهر» النور جملة لأن الزهر له منظر ثم يضمحل فكذلك حال هؤلاء، ونصب ‏{‏زهرة‏}‏ يجوز أن ينصب على الحال وذلك أن تعرفها ليس بمحض، وقرأت فرقة «زهْرة» بسكون الهاء، وفرقة «زهَرة» بفتح الهاء ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن ذلك إنما هو ليختبرهم به ويجعله فتنة لهم وأمراً يجازون عليه بالسوء لفساد تقلبهم فيه، ‏{‏ورزق‏}‏ الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده ‏{‏خير وأبقى‏}‏ أي رزق الدنيا ورزق الآخرة أبقى وبين أنه خير من رزق الدينا، ثم أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة وتمثيلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها ويتكفل هو برزقه لا إله إلاَّ هو، وأخبره أن العاقبة الأولى التقوى وفي حيزها فثم نصر الله في الدنيا ورحمته في الآخرة، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل في عمومه جمع أُمته‏.‏ وروي أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ ‏{‏ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا‏}‏ الآية إلى قوله ‏{‏وأبقى‏}‏، ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحكم الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل بهذه الآية، وقرأ الجمهور «نحن نرزقُك» بضم القاف، وقرأت فرقة «نزرقْك» بسكونها، ثم أخبر تعالى عن طوائف من الكفار قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لولا يأتينا بآية من ربه‏}‏ أي بعلامة مما اقترحناها عليه وبما يبهر ويضطر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ورسل الله إنما اقترنت معهم آيات معرضة للنظر محفوفة بالبراهين العقلية ليضل من سبق في علم الله تعالى ضلاله ويهتدي من في علم الله تعالى هداه، فيوبخهم الله تعالى بقوله ‏{‏أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى‏}‏ يعني التوراة أعظم شاهد وأكبر آية له‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «تأتهم» على لفظة ‏{‏بينة‏}‏ وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم «يأتهم» بالياء على المعنى، وقرأت فرقة «بينةُ ما» بالإضافة إلى ‏{‏ما‏}‏ وقرأت فرقة «بينةٌ» بالتنوين، و‏{‏ما‏}‏ على هذه القراءة فاعلة ب «تأتي»، وقرأ الجمهور «في الصحُف» بضم الحاء، وقرأت فرقة «في الصحْف» بسكونها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 135‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

أخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه لو أهلك هذه الأُمة الكافرة قبل إرساله إليهم محمداً لقامت لهم حجة ‏{‏ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً‏}‏ الآية‏.‏ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة والمغلوب على عقله والصبي الصغير فيقول المغلوب على عقله رب لم تجعل لي عقلاً ويقول الصبي نحوه ويقول الهالك في الفترة رب لم ترسل إليّ رسولاً ولو جاءني لكنت أطوع خلقك لك‏.‏ قال‏:‏ فترفع لهم نار ويقال لهم ردوها قال‏:‏ فيردها من كان في علم الله تعالى أنه سعيد ويكع عنها الشقي فيقول الله تعالى إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم» أما الصبي والمغلوب على عقله فبين أمرهما وأما صاحب الفترة فليس ككافر قريش قبل النبي صلى الله عليه وسلم لأن كفار قريش وغيرهم ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في أقطار الأرض فليس بصاحب فترة والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أبي وأبوك في النار ورأى عمرو بن لحي في النار إلى غير هذا مما يطول ذكره، وأما صاحب الفترة يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولاً ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود اللهم إلا أن يشد في أطراف الأرض والمواضع المنقطعة عن العمران، و«الذل والخزي» مقترنان بعذاب الآخرة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يتوعدهم ويحملهم ونفسه على التربص وانتظار الفرج‏.‏ و«التربص» التأني، و‏{‏الصراط‏}‏ الطريق‏.‏ وقرأت فرقة «السوي»، وقرأت فرفة «السوء» فكأن هذه القراءة قسمت الفريقين أي ستعلمون هذا من هذا وقرأت فرقة «السوَّي» بشد الواو وفتحها، وقرأت فرقة «السُّوؤى» بضم السين وهمزة على الواو على وزن فعلى، و‏{‏اهتدى‏}‏ معناه رشد‏.‏

سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

روي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يبني جداراً فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة فقال الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرآن‏؟‏ فقال الآخر نزل اليوم ‏{‏اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون‏}‏ فنفض يده من البنيان وقال والله لا بنيت أبداً وقد اقترب الحساب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏ عام في جميع الناس، المعنى وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما بعد من الآيات، وقوله ‏{‏وهم في غفلة معرضون‏}‏ يريد الكفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتجه من هذه الألفاظ على العصاة من المؤمنين قسطهم، وقوله ‏{‏ما يأتيهم‏}‏ وما بعده مختص بالكفار، وقوله ‏{‏من ذكر من ربهم محدث‏}‏ قالت فرقة المراد منا ينزل من القرآن ومعناه ‏{‏محدث‏}‏ نزوله وإتيانه إياهم لا هو في نفسه، وقالت فرقة المراد ب «الذكر» أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره فهو محدث على الحقيقة وجعله من ربه من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا ما هو من عند الله، وقالت فرقة «الذكر» الرسول نفسه واحتجت بقوله تعالى ‏{‏قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 11‏]‏ فهومحدث على الحقيقة ويكون، قوله ‏{‏استمعوه‏}‏ بمعنى استمعوا إليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو يلعبون‏}‏ جملة في موضع الحال أي أسماعهم في حال لعب غير نافع ولا واصل النفس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاهية‏}‏ حال بعد الحال، واختلف النحاة في إعراب قوله ‏{‏وأسروا النجوى الذين ظلموا‏}‏ فذهب سيبويه رحمه الله إلى أن الضمير في ‏{‏أسروا‏}‏ فاعل وأن ‏{‏الذين‏}‏ بدل منه وقال رحمه الله لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن، وقال أبو عبيدة وغيره الواو والألف علامة أن الفاعل مجموع كالتاء في قولك قامت هند و‏{‏الذين‏}‏ فاعل ب ‏{‏أسروا‏}‏ وهذا على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقالت فرقة الضمير فاعل و‏{‏الذين‏}‏ مرتفع بفعل مقدر تقديره أسرها الذين أو قال الذين ع والوقوف على ‏{‏النجوى‏}‏ في هذا القول وفي الأول أحسن ولا يحسن في الثاني، وقالت فرقة ‏{‏الذين‏}‏ مرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم الذين ظلموا، والوقف مع هذا حسن، وقالت فرقة ‏{‏الذين‏}‏ في موضع نصب بفعل تقديره أعني الذين، وقالت فرقة ‏{‏الذين‏}‏ في موضع خفض بدل من ‏{‏الناس‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 1‏]‏ ع وهذه أقوال ضعيفة ومعنى ‏{‏أسروا النجوى‏}‏ تكلموا بينهم في السر والمناجاة بعضهم لبعض، وقال ابو عبيدة ‏{‏أسروا‏}‏ أظهروا وهو من الأضداد، ثم بين تعالى الأمر الذي يتناجون به وهو قول بعضهم لبعض ‏{‏هل هذا إلا بشر مثلكم‏}‏، ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة ‏{‏أفتأتون السحر‏}‏ أي ما يقول شبهوه بالسحر، المعنى أفتتبعون السحر ‏{‏وأنتم تبصرون‏}‏ أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك، كأنهم قالوا تضلون على بينة ومعرفة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعاً ‏{‏قل ربي يعلم القول في السماء والأرض‏}‏ أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «قل ربي» وقرأ حمزة والكسائي «قال ربي يعلم» على معنى الخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف عن عاصم، قال الطبري رحمه الله وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الإهماز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما اقتضت الآية التي قبل هذه أنهم قالوا إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الإضراب بكل مقالة عن المقدمة لها ليتبين اضطراب أمرهم، فهو إضراب عن جحد متقدم لأن الثاني ليس بحقيقة في نفسه، و«الأضغاث» الأخلاط وأصل الضغث القبضة المختلطة من العشب والحشيش، فشبه تخليط الحلم بذلك، وهو ما لا يتفسر ولا يتحصل، ثم حكى من قال قول شاعر وهي مقالة فرقة عامية منهم لأن نبلاء العرب لم يخف عليهم بالبديهة أن مباني القرآن ليست مباني شعر ثم حكى اقتراحهم وتمنيهم آية تضطرهم وتكون في غاية الوضوح كناقة صالح وغيرها، وقولهم ‏{‏كما ارسل الأولون‏}‏ دال على معرفتهم بإيتان الرسل الأمم المتقدمة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما آمنت قبلهم‏}‏ مقدراً كلام يدل عليه المعنى، تقديره والآية التي طلبوا عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم‏.‏ وما آمنت قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة أفهذه كانت تؤمن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ جملة في موضع الصفة ل ‏{‏قرية‏}‏ والجملة إذا اتبعت النكرات فهي صفة لها وإذا اتبعت المعارف فهي أحوال منها، ‏{‏وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً‏}‏ رد على فرقة منهم كانوا يستبعدون أن يبعث الله من البشر رسولاً يشف على نوعه من البشر بهذا القدر من الفضل، فمثل الله تعالى في الرد عليهم بمن سبق من الرسل من البشر، وقرأ الجمهور «يوحى» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حفص عن عاصم «نوحي» بالنون، ثم أحالهم على سؤال ‏{‏أهل الذكر‏}‏ من حيث لم يكن عند قريش كتاب ولا إثارة من علم، واختلف الناس في ‏{‏أهل الذكر‏}‏ من هم، فروى عبدالله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر، وقالت فرقة هم أهل القرآن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا موضع ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله تعالى عباده فأهل القرآن أهل ذكر، وهذا ما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أُحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد عليه السلام فتجيء شهادتهم بأن الرسل قديماً من البشر لا مطعن فيها لازمة لكفار قريش وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلناهم جسداً‏}‏ قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عجلاً جسداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏‏.‏ فمعنى هذا ما جعلناهم أجساداً لا تتغذى، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي‏.‏ والمعنى ما جعلناهم أجساداً وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو الملائكة، ف ‏{‏جعلناهم جسداً‏}‏ على التأويل الأول منفي، وعلى الثاني موجب، والنفي واقع على صفته‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يأكلون الطعام‏}‏ كناية عن الحدث، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذا وعيد في ضمن وصفه تعالى سيرته في الأنبياء من أنه يصدق مواعيدهم فكذلك يصدق لمحمد عليه السلام ولأصحابه ما وعدهم من النصر وظهور الكلمة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن نشاء‏}‏ معناه من المؤمنين بهم، و«المسرفون» الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم وكل من ترك الإيمان مفرط مسرف، ثم وبخهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا‏}‏ الآية و«الكتاب» القرآن‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه ذكركم‏}‏ يحتمل أن يكون في الذكر الذي أنزله الله تعالى إليكم بأمر دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم ويحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الآية‏.‏ كما تذكر عظام الأُمور، وفي هذا تحريض ثم تأكد التحريض بقوله ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ وحركهم ذلك إلى النصر، ثم مثل لهم على جهة التوعد بمن سلف من الأُمم المعذبة، و‏{‏كم‏}‏ للتكثير وهي في موضع نصب ب ‏{‏قصمنا‏}‏ ومعناه أهلكنا، وأصل القصم الكسر في الأجرام فإذا استعير للقوم أو القرية ونحوه فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم وأوقع هذه الأمور على «القرية» والمراد أهلها وهذا مهيع كثير، ومنه ‏{‏ما آمنت قبلهم من قرية‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 6‏]‏ وغيره وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنشأنا‏}‏ أي خلقنا وبثثنا أُمة أُخرى غير المهلكة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أحسوا‏}‏ وصف عن قرية من القرى المجملة أولاً قيل كانت باليمن تسمى حصورا بعث الله تعالى إلى أهلها رسولاً فقتلوه، فأرسل الله تعالى بخت نصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار‏.‏ و‏{‏أحسوا‏}‏ باشروه بالحواس، و«الركض» تحريك القدم على الصفة المعهودة، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيهاً بالدابة‏.‏